سورة الحديد - تفسير تفسير البيضاوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحديد)


        


{سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السموات والأرض} ذكر هاهنا وفي (الحشر) و(الصف) بلفظ الماضي، وفي (الجمعة) و(التغابن) بلفظ المضارع إشعاراً بأن من شأن ما أسند إليه أن يسبحه في جميع أوقاته، لأنه دلالة جِبِلِّية لا تختلف باختلاف الحالات، ومجيء المصدر مطلقاً في (بني إسرائيل) أبلغ من حيث إنه يشعر بإطلاقه على استحقاق التسبيح من كل شيء وفي كل حال، وإنما عدي باللام وهو متعد بنفسه مثل نصحت له في نصحته إشعاراً بأن إيقاع الفعل لأجل الله وخالصاً لوجهه. {وَهُوَ العزيز الحكيم} حال يشعر بما هو المبدأ للتسبيح.
{لَّهُ مُلْكُ السموات والأرض} فإنه الموجد لها والمتصرف فيها. {يُحْيِي وَيُمِيتُ} استئناف أو خبر لمحذوف {وَهُوَ على كُلّ شَئ} من الإِحياء والإِماتة وغيرهما. {قَدِيرٌ} تام القدرة.
{هُوَ الأول} السابق على سائر الموجودات من حيث إنه موجدها ومحدثها. {والآخر} الباقي بعد فنائها ولو بالنظر إلى ذاتها مع قطع النظر عن غيرها، أو {هُوَ الأول} الذي تبتدئ منه الأسباب وتنتهي إليه المسببات، أو {الأول} خارجاً و{الآخر} ذهناً. {والظاهر والباطن} الظاهر وجوده لكثرة دلائله والباطن حقيقة ذاته فلا تكتنهها العقول، أو الغالب على كل شيء والعالم بباطنه والواو الأولى والأخيرة للجمع بين الوصفين، والمتوسطة للجمع بين المجموعين. {وَهُوَ بِكُلّ شَئ عَلِيمٌ} يستوي عنده الظاهر والخفي.
{هُوَ الذي خَلَقَ السموات والأرض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الأرض} كالبذور. {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} كالزروع. {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء} كالأمطار. {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} كالأبخرة. {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ} لا ينفك علمه وقدرته عنكم بحال. {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيكم عليه، ولعل تقديم الخلق على العلم لأنه دليل عليه.


{لَّهُ مُلْكُ السموات والأرض} ذكره مع الإِعادة كما ذكره مع الإِبداء لأنه كالمقدمة لهما. {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور}.
{يُولِجُ اليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار فِى اليل وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} بمكنوناتها.
{آمِنُوا بالله وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} من الأموال التي جعلكم الله خلفاء في التصرف فيها فهي في الحقيقة له لا لكم، أو التي استخلفكم عمن قبلكم في تملكها والتصرف فيها، وفيه حث على الإِنفاق وتهوين له على النفس. {فالذين ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} وعد فيه مبالغات جعل الجملة اسمية وإعادة ذكر الإِيمان والإِنفاق وبناء الحكم على الضمير وتنكير الأجر ووصفه بالكبر.
{وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله} أي وما تصنعون غير مؤمنين به كقولك: مالك قائماً. {والرسول يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبّكُمْ} حال من ضمير تؤمنون، والمعنى أي عذر لكم في ترك الإِيمان والرسول يدعوكم إليه بالحجج والآيات. {وَقَدْ أَخَذَ ميثاقكم} أي وقد أخذ الله ميثاقكم بالإِيمان قبل ذلك بنصب الأدلة والتمكين من النظر، والواو للحال من مفعول {يَدْعُوكُمْ}، وقرأ أبو عمرو وعلى البناء للمفعول ورفع {ميثاقكم}. {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} لموجب ما فإن هذا موجب لا مزيد عليه.
{هُوَ الذى يُنَزّلُ على عَبْدِهِ ءايات بينات لّيُخْرِجَكُمْ} أي الله أو العبد. {مِنَ الظلمات إِلَى النور} من ظلمات الكفر إلى نور الإِيمان. {وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ} حيث نبهكم بالرسول والآيات ولم يقتصر على ما نصب لكم من الحجج العقلية.
{وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ} وأي شيء لكم في {أَلاَّ تُنفِقُواْ}. {فِى سَبِيلِ الله} فيما يكون قربة إليه. {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السموات والأرض} يرث كل شيء فيهما فلا يبقى لأحد مال، وإذا كان كذلك فإنفاقه بحيث يستخلف عوضاً يبقى وهو الثواب كان أولى. {لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وقاتل أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً} بيان لتفاوت المنفقين باختلاف أحوالهم من السبق وقوة اليقين، وتحري الحاجات حثاً على تحري الأفضل منها بعد الحث على الإِنفاق، وذكر القتال للاستطراد وقسيم من أنفق محذوف لوضوحه ودلالة ما بعده عليه، و{الفتح} فتح مكة إذ عز الإِسلام به وكثر أهله وقلت الحاجة إلى المقاتلة والإِنفاق. {مّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ} أي من بعد الفتح. {وقاتلوا وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} أي وعد الله كلا من المنفقين المثوبة الحسنى وهي الجنة. وقرأ ابن عامر {وكُلٌ} بالرفع على الابتداء أي وكل وعده الله ليطابق ما عطف عليه. {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} عالم بظاهره وباطنه فيجازيكم على حسبه، والآية نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه فإنه أول من آمن وأنفق في سبيل الله وخاصم الكفار حتى ضرب ضرباً أشرف به على الهلاك.


{مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا} أي من الذي ينفق ماله في سبيله رجاء أن يعوضه، فإنه كمن يقرضه وحسن الإِنفاق بالإِخلاص فيه وتحري أكرم المال وأفضل الجهات له. {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} أي يعطي أجره أضعافاً. {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} أي وذلك الأجر المضموم إليه الأضعاف كريم في نفسه ينبغي أن يتوخى وإن لم يضاعف، فكيف وقد يضاعف أضعافاً. وقرأ عاصم {فَيُضَاعِفَهُ} بالنصب على جواب الاستفهام باعتبار المعنى فكأنه قال: أيقرض الله أحد فيضاعفه له. وقرأ ابن كثير {فيضعفه} مرفوعاً وقرأ ابن عامر ويعقوب {فيضعفه} منصوباً.
{يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات} ظرف لقوله: {وَلَهُ} أو {فَيُضَاعِفَهُ} أو مقدر باذكر {يسعى نُورُهُم} ما يوجب نجاتهم وهدايتهم إلى الجنة. {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم} لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين. {بُشْرَاكُمُ اليوم جنات} أي يقول لهم من يتلقاهم من الملائكة {بُشْرَاكُمُ} أي المبشر به جنات، أو {بُشْرَاكُمُ} دخول جنات. {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا ذلك الفوز العظيم} الإِشارة إلى ما تقدم من النور والبشرى بالجنات المخلدة.
{يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات} بدل من {يَوْمَ تَرَى}. {لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ انظرونا} انتظرونا فإنهم يسرع بهم إلى الجنة كالبرق الخاطف، أو انظروا إلينا فإنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم فيستضيئون بنور بين أيديهم. وقرأ حمزة {أنظرونا} على أن اتئادهم ليلحقوا بهم إمهال لهم. {نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} نصب منه. {قِيلَ ارجعوا وَرَاءكُمْ} إلى الدنيا. {فالتمسوا نُوراً} بتحصيل المعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة، فإنه يتولد منها أو إلى الموقف فإنه من ثمة يقتبس، أو إلى حيث شئتم فاطلبوا نوراً آخر فإنه لا سبيل لكم إلى هذا، وهو تهكم بهم وتخييب من المؤمنين أو الملائكة {فَضُرِبَ بَيْنَهُم} بين المؤمنين والمنافقين. {بِسُورٍ} بحائط. {لَّهُ بَابٌ} يدخل منه المؤمنون. {بَاطِنُهُ} باطن السور أو الباب. {فِيهِ الرحمة} لأنه يلي الجنة. {وظاهره مِن قِبَلِهِ العذاب} من جهته لأنه يلي النار.
{ينادونهم أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} يريدون موافقتهم في الظاهر. {قَالُواْ بلى ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ} بالنفاق. {وَتَرَبَّصْتُمْ} بالمؤمنين الدوائر. {وارتبتم} وشككتم في الدين. {وَغرَّتْكُمُ الأمانى} كامتداد العمر. {حتى جَاء أَمْرُ الله} وهو الموت. {وَغَرَّكُم بالله الغرور} الشيطان أو الدنيا.
{فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ} فداء وقرأ ابن عامر ويعقوب بالتاء. {وَلاَ مِنَ الذين كَفَرُواْ} ظاهراً وباطناً. {مَأْوَاكُمُ النار هِىَ مولاكم} هي أولى بكم كقول لبيد:
فَغَدَتْ كِلاَ الفرجَيْنِ تَحْسِبُ أَنَّه *** مَوْلَى المَخَافَةِ خَلْفَهَا وَأمامها
وحقيقته مجراكم أي مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم كقولك: هو مئنة الكرم أي مكان قول القائل إنه لكريم، أو مكانكم عما قريب من الولي وهو القرب، أو ناصركم على طريقة قوله:
تَحِيَّةٌ بَيْنَهُمْ ضَرْبٌ وَجِيعٌ ***
أو متوليكم يتولاكم كما توليتم موجباتها في الدنيا {وَبِئْسَ المصير} النار.
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله} ألم يأت وقته يقال أنى الأمر يأني أنياً وأناً إذا جاء إناه، وقرئ: {ألم يئن} بكسر الهمزة وسكون النون من آن يئين بمعنى أتى وألماً يأن. روي أن المؤمنين كانوا مجدبين بمكة فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه فنزلت. {وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق} أي القرآن وهو عطف على الذكر عطف أحد الوصفين على الآخر، ويجوز أن يراد بالذكر أن يذكر الله، وقرأ نافع وحفص ويعقوب {نَزَّلَ} بالتخفيف. وقرئ: {أنزل}. {وَلاَ يَكُونُواْ كالذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلُ} عطف على {تَخْشَعَ}، وقرأ رويس بالتاء والمراد النهي عن مماثلة أهل الكتاب فيما حكي عنهم بقوله: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} أي فطال عليهم الأجل لطول أعمارهم وآمالهم، أو ما بينهم وبين أنبيائهم {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ}. وقرئ: {الأمد} وهو الوقت الأطول. {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون} خارجون عن دينهم رافضون لما في كتابهم من فرط القسوة.
{اعلموا أَنَّ الله يُحْييِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} تمثيل لإِحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة بالإِحياء والإموات ترغيباً في الخشوع وزجراً عن القساوة. {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} كي تكمل عقولكم.
{إِنَّ المصدقين والمصدقات} إن المتصدقين والمتصدقات، وقد قرئ بهما، وقرأ ابن كثير وأبو بكر بتخفيف الصاد أي الذين صدقوا الله ورسوله. {وَأَقْرَضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً} عطف على معنى الفعل في المحل باللام لأن معناه: الذين أصدقوا، أو صدقوا وهو على الأول للدلالة على أن المعتبر هو التصدق المقرون بالإِخلاص. {يضاعف لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} معناه والقراءة في {يضاعف} كما مر غير أنه لم يجزم لأنه خبر إن وهو مسند إلى {لَهُمْ} أو إلى ضمير المصدر.
{والذين ءَامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصديقون والشهداء عِندَ رَبّهِمْ} أي أولئك عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء، أو هم المبالغون في الصدق فإنهم آمنوا وصدقوا جميع أخبار الله ورسله والقائمون بالشهادة لله ولهم، أو على الأمم يوم القيامة. وقيل: {والشهداء عِندَ رَبّهِمْ} مبتدأ وخبر، والمراد به الأنبياء من قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ} أو الذين استشهدوا في سبيل الله. {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} مثل أجر الصديقين والشهداء ومثل نورهم ولكنه من غير تضعيف ليحل التفاوت، أو الأجر والنور الموعودان لهم. {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بئاياتنا أولئك أصحاب الجحيم} فيه دليل على أن الخلود في النار مخصوص بالكفار من حيث أن التركيب يشعر بالاختصاص والصحبة تدل على الملازمة عرفاء.

1 | 2